كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن ذلك: بطلان وصية الموصى له بمال إذا قتل الموصى.
ومن ذلك: بطلان تدبير المدَبَّر إذا قتل سيده ليعجل العتق.
ومن ذلك: تحريم المنكوحة في عدتها على الزوج، تحريما مؤبدًا، عند عمر ابن الخطاب، ومالك، وإحدى الروايتين عن أحمد، لما احتال على وطئها بصورة العقد المحرم.
ومن ذلك: ما لو احتال المريض على منع امرأته من الميراث بطلاقها، فإنها ترثه مادامت في العدة، عند طائفة، وعند آخرين ترثه وإن انقضت عدتها، ما لم تتزوج، وعند طائفة: ترث وإن تزوجت.
ومن ذلك: بطلان إقرار المريض لوارثه بمال لأنه يتخذه حيلة على الوصية له. ونظائر ذلك كثيرة:
فالمحتال بالباطل معامل بنقبض قصده شرعًا وقدرًا.
وقد شاهد الناس عيانا أنه من عاش بالمَكْرِمَاتَ بالفقر.
ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى من احتال على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها.
وعاقب من احتال على الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير.
وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا بأن يمحق ماله. كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبى الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].
فلابد أن يمحق مال المرابى ولو بلغ ما بلغ.
وأصل هذا: أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم، فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلامه ورده عليه.
وجعل عقوبة الغال من الغنيمة لما قصد تكثير ماله بالغلول: حرمانه سهمه، وإحراق متاعه.
وجعل عقوبة من اصطاد في الحرم أو الإحرام: تحريم أكل ما صاده، وتغريمه نظيره.
وجعل عقوبة من تكبر عن قبول الحق والانقياد له: أن ألزمه من الذل والصغار بحسب ما تكبر عنه من الحق.
وجعل عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته: أن صيره عبدا لأهل عبوديته وطاعته.
وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق: أن تقطع أطرافه، وتقطع عليه الطرق كلها بالنفى من الأرض، فلا يسير فيها إلا خائفًا.
وجعل عقوبة من التذ بدنه كله وروحه بالوطء الحرام: إيلام بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذة.
وشرع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عقوبة من اطلع في بيت غيره: أن تقلع عينه بعود ونحوه، إفسادًا للعضو الذي خانه، وأولجه بيته بغير إذنه، واطلع به على حرمته.
وعاقب كل خائن بأنه يضل كيده ويبطله ولا يهديه المقصوده وإن نال بعضه، فالذى ناله سبب لزيادة عقوبته وخيبته: {وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52].
وعاقب من حرص على الولاية، والإمارة والقضاء، بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «إِنَّا لا نُوَلّى عَمَلَنَا هذَا مَنْ سَأَلهُ».
ولهذا عاقب أبا البشر آدم عليه السلام: بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالأكل من الشجرة ليخلد فيها، فكانت عقوبته إخراجه منها، ضد ما أمله.
وعاقب من اتخذ معه إلها آخر، ينتصر به، ويتعزز به: بأن جعله عليه ضدا يذل به، ويخذل به. كما قال تعالى: {وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا} [مريم: 81- 82] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مْحُضَرُونَ} [يس: 74- 75].
وقال تعالى: {لا تَجْعَل مَعَ اللهِ إلهَا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوما مَخْذُولا} [الإسراء: 22].
ضد ما أمله المشرك من اتخاذ الإله من النصر والمدح.
وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل والميزان بجور السلطان عليهم، يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم بعضا.
وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها لأموالهم بحبس الغيث عنهم، فيمحق بذلك أموالهم، ويستوى غيهم وفقيرهم في الحاجة.
وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وطلبوا الهدى من غيره: بأن يضلهم، ويسد عليهم أبواب الهدى كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في حديث على رضي الله عنه الذي رواه الترمذى وغيره، وذكر القرآن: «مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الُهْدَى في غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ».
فإن المعرض عن القرآن إما أن يعرض عنه كبرا، فجزاؤه أن يقصمه الله، أو طلبا للهدى من غيره فجزاؤه أن يضله الله.
وهذا باب واسع جدا عظيم النفع. لمن تدبره يجده متضمنا لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته، بأن يعكس عليه مقصوده شرعًا وقدرًا، دنيا وآخره. وقد اطردت سنته الكونية سبحانه في عباده، بأن من مكر بالباطل مكربه، ومن احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خدع. قال الله تعالى: {إِنّ المُنَافِقينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه} [فاطر: 43].
فلا تجد ما كرًا إلا وهو ممكور به، ولا مخادعا إلا وهو مخدوع، ولا محتالا إلا وهو محتال عليه.
فصل:
وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها. فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك. فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حرم الذرائع، وإن لم يقصد بها المحرم، لإفضائها إليه.
فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه؟
فنهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين، لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا، على وجه المقابلة.
وأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن: «مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ. قَالُوا: وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ. وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ».
ولما جاءت صفية رضى الله تعالى عنها تزوره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو معتكف قام معها ليوصلها إلى بيتها فرآهما رجلان من الأنصار فقال: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍ. فَقَالا: سُبْحَانَ اللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: إِنّ الشّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. إنى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شَرًا».
فسد الذريعة إلى ظنهما السوء بإعلامهما أنها صفية.
وأمسك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة، لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس: «إِنّ مُحَّمدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ».
وحرم القطرة من الخمر وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير، لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها.
وحرم إمساكها للتخليل وجعلها نجسة، لئلا تفضى مقاربتها بوجه من الوجوه إلى شربها.
ونهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها حسمًا للمادة وسدا للذريعة.
وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها والنظر إليها لغير حاجة، حسمًا للمادة وسدا للذريعة.
ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور.
ومنعهن من التسبيح في الصلاة لنائبة تنوب، بل جعل لهن التصفيق.
ومنع المعتدة من الوفاة، من الزينة والطيب والحلى.
ومنع الرجل من التصريح بخطبتها في العدة وإن كان إنما يعقد النكاح بعد انقضاءها.
ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها حتى كأنه ينظر إليها.
ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله.
ونهى عن تعلية القبور وتشريفها وأمر بتسويتها.
ونهى عن البناء عليها وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها وعندها، وإيقاد المصابيح عليها. كل ذلك سدا لذريعة اتخاذها أوثانًا. وهذا كله حرام على من قصده ومن لم يقصده، بل على من قصد خلافه، سدا للذريعة.
ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لكون هذين الوقتين وقته سجود الكفار للشمس. ففى الصلاة نوع تشبه بهم في الظاهر. وذلك ذريعة إلى الموافقة والمشابهة في الباطن، وأكد كذلك بالنهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس مبالغة في هذا المقصود، وحماية لجانب التوحيد، وسدًا لذريعة الشرك بكل ممكن.
ومنع من التفرق في الصرف قبل التقابض، وكذلك الربوى إذا بيع بربوى آخر، من غير جنسه، سدا لذريعة النَّساء، الذي هو صلب الربا ومعظمه، بل منع من بيع الدرهم بالدرهمين نقدًا سدًا لذريعة ربا النَّساء، كما علل بذلك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، وهذا أحسن العلل في تحريم ربا الفضل.
وحرم الجمع بين السلف والبيع، لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف، بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع.
ومنع البائع أن يشترى السلعة من مشتريها بأقل مما اشتراها به، وهى مسألة العينة وإن لم يقصد الربا، لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نسيئة بعشرة نقدًا.
وحرم جمع الشرطين في البيع، لكونه وسيلة إلى ذلك، وهو منطبق على مسألة العينة.
ومنع من القرض الذي يجر النفع وجعله ربا.
ومنع المقرض من قبول هدية المقترض، ما لم يكن بينهما عادة جارية بذلك قبل القرض. ففى سنن ابن ماجه عن يحيى بن أبى إسحاق الهنائى. قال سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال، فيهدى إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم: «إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فأَهْدَى إِلَيْهِ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابّةِ فَلا يَرْكَبَنّهَا، وَلا يَقْبَلهُ إلا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذلِكَ».
وروى البخارى في تاريخه عن يزيد بن أبى يحيى الهنائى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ فَلا يأْخُذْ هَدِيّةً».
وفى صحيح البخارى عن أبى بردة عن أبى موسى قال: «قَدِمْتُ المَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلامٍ فقَالَ لى: إِنّكَ بأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ، فَإِذَا كانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَق فأَهْدَى إِلَيْكَ حمل تبن أو حْمِل شَعِيرٍ، أوْ حُمِلَ قَتٍّ، فَلا تَأْخُذْهُ فَإِنّهُ رِبًا».
وروى سعيد بن منصور في سننه هذا المعنى عن أبى بن كعب.
وجاء عن ابن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم نحوه.
وكل ذلك سدا لذريعة أخذ الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل.
ونهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وهو الدين المؤخر بالدين المؤخر، لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فلو كان الدينان حالين لم يمتنع، لأنهما يسقطان جميعًا من ذمتيهما، وفى الصورة المنهى عنها ذريعة إلى تضاعف الدين في ذمة كل واحد منهما في مقابلة تأجيله وهذه مفسدة ربا النسيئة بعينها.